سورة المائدة - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


هذه الآيات المتضمنة الخبر عن نقضهم مواثيق الله تعالى تقوي أن الآية المتقدمة في كف الأيدي إنما كانت في أمر بني النضير، واختلف المفسرون في كيفية بعثة هؤلاء النقباء بعد الإجماع على أن النقيب كبير القوم القائم بأمورهم الذي ينقب عنها وعن مصالحهم فيها، والنقاب الرجل العظيم الذي هو في الناس كلهم على هذه الطريقة ومنه قيل في عمر: إنه كان لنقاباً، فالنقباء قوم كبار من كل سبط تكفل كل واحد بسبطه بأن يؤمنوا ويتقوا الله تعالى.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ونحو هذا كان النقباء ليلة بيعة العقبة مع محمد صلى الله عليه وسلم، وهي العقبة الثالثة بايع فيه سبعون رجلاَ وامرأتان فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم إسرائيل أمناء على الاطلاع الجبارين والسبر لقوتهم ومنعتهم فساروا حتى لقيهم رجل من الجبارين فأخذهم جميعاً فجعلهم في حجزته.
قال القاضي أبو محمد: في قصص طويل ضعيف مقتضاه أنهم اطلعوا من الجبارين على قوة عظيمة وظنوا أنهم لا قبل لهم بهم فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك عن بني إسرائيل وأن يعلموا به موسى عليه السلام ليرى فيه أمر ربه فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فعرفوا قراباتهم ومن وثقوه على سرهم ففشا الخبر حتى اعوج أمر بني إسرائيل وقالوا اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون، وأسند الطبري عن ابن عباس قال: النقباء من بني إسرائيل بعثهم موسى لينظروا إلى مدينة الجبارين فذهبوا ونظروا فجاءوا بحبة من فاكهتهم وقر رجل فقالوا: اقدروا قدر قوم هذه فاكهتهم فكان ذلك سبب فتنة بني إسرائل ونكولهم، وذكر النقاش أن معنى قوله تعالى: {وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً} أي ملكاً وأن الآية تعديد نعمة الله عليهم في أن بعث لإصلاحهم هذا العدد من الملوك قال فما وفى منهم إلا خمسة داود عليه السلام وابنه سليمان وطالوت وحزقيا وابنه وكفر السبعة وبدلوا وقتلوا الأنبياء وخرج خلال الاثني عشر اثنان وثلاثون جباراً كلهم يأخذ الملك بالسيف ويعيث فيهم والضمير في {معكم} لبني إسرائيل جميعاً ولهم كانت هذه المقالة وقال الربيع: بل الضمير للاثني عشر ولهم كانت هذه المقالة.
قال القاضي أبو محمد: والقول الأول أرجح و{معكم} معناه بنصري وحياطتي وتأييدي واللام في قوله {لئن} هي المؤذنة بمجيء لام القسم ولام القسم هي قوله {لأكفرن} والدليل على أن هذه اللام إنما هي مؤذنة أنها قد يستغنى عنها أحياناً ويتم الكلام دونها ولو كانت لام القسم لن يترتب ذلك، وإقامة الصلاة توفية شروطها و{الزكاة} هنا شيء من المال كان مفروضاً فيما قال بعض المفسرين ويحتمل أن يكون المعنى وأعطيتم من أنفسكم كل ما فيه زكاة لكم حسبما ندبتم إليه وقدم هذه على الإيمان تشريفاً للصلاة والزكاة وإذ قد علم وتقرر أنه لا ينفع عمل إلا بإيمان، وقرأ الحسن بن أبي الحسن {برسْلي} ساكنة السين في كل القرآن.
{وعزرتموهم} معناه وقرتموهم وعظمتموهم ونصرتموهم ومنه قول الشاعر:
وكم من ماجد لهم كريم *** ومن ليث يعزر في الندى
وقرأ عاصم الجحدري {وعَزرتموهم} خفيفة الزاي حيث وقع وقرأ في سورة الفتح {وتَعزوه} بفتح التاء وسكون العين وضم الزاي، وقد تقدم في سورة البقرة تفسير الإقراض، وتكفير السيئات تغطيتها بالمحو والإذهاب فهي استعارة و{سواء السبيل} وسطه ومنه {سواء الجحيم} [الصافات: 55] ومنه قول الأعرابي قد انقطع سوائي، وأوساط الطرق هي المعظم اللاحب منها، وسائر ما في الآية بيّن والله المستعان.


يحتمل أن تكون ما زائدة والتقدير فبنقضهم ويحتمل أن تكون اسماً نكرة أبدل منه النقض على بدل المعرفة من النكرة التقدير فبفعل هو نقضهم للميثاق وهذا هو المعنى في هذا التأويل، وقد تقدم في النساء نظير هذا و{لعناهم} معناه بعدناهم من الخير أجمعه وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر {قاسية} بالألف وقرأ حمزة والكسائي {قسية} دون ألف وزنها فعيلة فحجة الأولى قوله تعالى: {فويل للقاسية قلوبهم} وقوله: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك} [البقرة: 74] والقسوة غلظ القلب ونبوه عن الرقة والموعظة وصلابته حتى لا ينفعل لخير ومن قرأ قسيه فهو من هذا المعنى فعيلة بمعنى فاعلة كشاهد وشهيد وغير ذلك من الأمثلة، وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا {قسية} ليست من معنى القسوة وإنما هي كالقسي من الدراهم وهي التي خالطها غش وتدليس فكذا القلوب لم تصف للإيمان بل خالطها الكفر والفساد ومن ذلك قول أبي زبيد:
لها صواهل في صم السلام كما *** صاح القسيات في أيدي الصياريف
ومنه قول الآخر:
فما زوداني غير سحق عمامة *** وخمس مئي منها قسي وزائف
قال أبو علي: هذه اللفظة معربة وليست بأصل في كلام العرب، واختلف العلماء في معنى قوله: {يحرفون الكلم} فقال قوم منهم ابن عباس، تحريفهم هو بالتأويل ولا قدرة لهم على تبديل الألفاظ في التوراة ولا يتمكن لهم ذلك ويدل على ذلك بقاء آية الرجم واحتياجهم إلى أن يضع القارئ يده عليها، وقالت فرقة: بل حرفوا الكلام وبدلوه أيضاً وفعلوا الأمرين جميعاً بحسب ما أمكنهم.
قال القاضي أبو محمد: وألفاظ القرآن تحتمل المعنيين فقوله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} [البقرة: 79] يقتضي التبديل. ولا شك أنهم فعلوا الأمرين. وقرأ جمهور الناس {الكَلِم} بفتح الكاف وكسر اللام وقرأ أبو عبد الرحمن وإبراهيم النخعي {الكلام} بالألف وقرأ أبو رجاء. {الكِلْم} بكسر الكاف وسكون اللام، وقوله تعالى: {ونسوا حظاً مما ذكروا به} نص على سوء فعلهم بأنفسهم أي قد كان لهم حظ عظيم فيما ذكروا به فنسوه وتركوه، ثم أخبر تعالى نبيه عليه السلام أنه لا يزال في مؤتنف الزمان يطلع {على خائنة منهم} وغائلة وأمور فاسدة، واختلف الناس في معنى {خائنة} في هذا الموضع فقالت فرقة {خائنة} مصدر كالعاقبة وكقوله تعالى: {فأهلكوا بالطاغية} [الحاقة: 5] فالمعنى على خيانة، وقال آخرون معناه على فرقة خائنة فهي اسم فاعل صفة المؤنث، وقال آخرون المعنى على خائن فزيدت الهاء للمبالغة كعلامة ونسابة ومنه قول الشاعر:
حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن *** للغدر خائنة مغل الاصبع
وقرأ الأعمش: {على خيانة منهم} ثم استثنى تبارك وتعالى منهم القليل فيحتمل أن يكون الاستثناء في الأشخاص، ويحتمل أن يكون في الأفعال، وقوله تعالى: {فاعف عنهم واصفح} منسوخ بما في براءة من الأمر بقتالهم حتى يؤدوا الجزية وباقي الآية وعد على الإحسان.


{من} متعلقة {بأخذنا} التقدير: وأخذنا من الذين قالوا إنّا نصارى ميثاقهم، ويحتمل أن يكون قوله {ومن} معطوف على قوله {خائنة منهم} [المائدة: 13]، ويكون قوله {أخذنا ميثاقهم} ابتداء خبر عنهم، والأول أرجح. وعلق كونهم نصارى بقولهم ودعواهم، من حيث هو اسم شرعي يقتضي نصر دين الله، وسموا به أنفسهم دون استحقاق ولا مشابهة بين فعلهم وقولهم، فجاءت هذه العبارة موبخة لهم مزحزحة عن طريق نصر دين الله وأنبيائه، وقوله تعالى: {فأغرينا بينهم} معناه أثبتناها بينهم وألصقناها، والإغراء مأخوذ من الغراء الذي يلصق به، والضمير في {بينهم} يحتمل أن يعود على اليهود والنصارى لأن العداوة بينهم، موجودة مستمرة، ويحتمل أن يعود على النصارى فقط لأنها أمة متقاتلة بينها الفتن إلى يوم القيامة، ثم توعدهم الله تعالى بعقاب الآخرة إذ أنباؤهم بصنعهم إنما هو تقرير وتوبيخ للعذاب، إذ صنعهم كفر يوجب الخلود في النار.
وقوله تعالى: {يا أهل الكتاب} لفظ يعم اليهود والنصارى ولكن نوازل الإخفاء كالرحم وغيره إنما حفظت لليهود، لأنهم كانوا مجاوري رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهاجره، وقال محمد بن كعب القرظي: أول ما نزل من هذه السورة هاتان الآيتان في شأن اليهود والنصارى، ثم نزل سائر السورة بعرفة في حجة الوداع وقوله: {رسولنا} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، وفي الآية الدالة على صحة نبوته. لأن إعلامه بخفيّ ما في كتبهم وهو أمي لا يقرأ ولا يصحب القرأة دليل على أن ذلك إنما يأتيه من عند الله تبارك وتعالى، وأشهر النوازل التي أخفوها فأظهرها الله على لسان نبيه أمر الرجم، وحديثه مشهور. ومن ذلك صفات محمد صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك. و{من الكتاب} يعني من التوراة وقوله: {ويعفو عن كثير} معناه ويترك كثيراً لا يفضحكم فيه إبقاء عليكم. وهذا المتروك هو في معنى افتخارهم ووصفهم أيام الله قبلهم ونحو ذلك مما لا يتعين في ملة الإسلام فضحهم فيه وتكذيبهم، والفاعل في {يعفو} هو محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يستند الفعل إلى الله تعالى وإذا كان العفو من النبي عليه السلام فبأمر ربه، وإن كان من الله تعالى فعلى لسان نبيه عليه السلام، والاحتمالان قريب بعضهما من بعض.
قوله عز وجل: {نور وكتاب مبين} يحتمل أن يريد محمداً صلى الله عليه وسلم والقرآن، وهذا هو ظاهر الألفاظ، ويحتمل أن يريد موسى عليه السلام والتوراة، أي ولو اتبعتموها حق الاتباع لآمنتم بمحمد، إذ هي آمرة بذلك مبشرة به، وقرأ عبيد بن عمير والزهري وسلام وحميد ومسلم بن جندب {بهُ اللهُ} بضم الهاء حيث وقع مثله، و{اتبع رضوانه} معناه بالتكسب والنية والإقبال عليه، والسبل الطرق، والقراءة في {رُضوان} بضم الراء وبكسرها وهما لغتان، وقد تقدم ذكر ذلك وقرأ ابن شهاب والحسن بن أبي الحسن {سبْل} ساكنة الباء.
و {السلام} في هذه الآية يحتمل أن يكون اسماً من أسماء الله تعالى، فالمعنى طرق الله تعالى التي أمر بها عباده وشرعها لهم، ويحتمل أن يكون مصدراً كالسلامة فالمعنى طرق النجاة والسلامة من النار، وقوله تعالى: {ويخرجهم} يعني المتبعين الرضوان، فالضمير على معنى من لا على لفظها، و{الظلمات} الكفر، و{النور} الإيمان، وقوله تعالى: {بإذنه} أي يمكنهم من أقوال الإيمان وأفعاله، ويعلم فعلهم لذلك والتزامهم إياه، فهذا هو حد الإذن، العلم بالشيء والتمكين منه، وقد تقدم شرحه في سورة البقرة والصراط المستقيم هو دين الله وتوحيده وما تركب عليه من شرعه.
ثم أخبر تعالى بكفر النصارى القائلين بأن الله هو المسيح، وهذه فرقة من النصارى وكل فرقهم على اختلال أقوالهم يجعل للمسيح عليه السلام حظاً من الألوهية، وقد تقدم القول في لفظ {المسيح} في سورة آل عمران، ثم رد عليهم تعالى قوله لنبيه: {قل فمن يملك من الله شيئاً} أي لا مالك ولا رادَّ لإرادة الله تعالى في المسيح ولا في غيره فهذا مما تقضي العقول معه أن من تنفذ الإرادة فيه ليس بإله، ثم قرر تعالى ملكه في السموات والأرض وما بينهما فحصل المسيح عليه السلام أقل أجزاء ملك الله تعالى، وقوله تعالى: {يخلق ما يشاء} إشارة إلى خلقه المسيح في رحمن مريم من غير والد. بل اختراعاً كآدم عليه السلام، وقد تقدم في آل عمران الفرق بين قوله تعالى في قصة زكرياء {يفعل ما يشاء} [آل عمران: 40] وفي قصة مريم {يخلق ما يشاء} وقوله تعالى: {والله على كل شيء قدير} عموم معناه الخصوص في ما عدا الذات والصفات والمحالات، والشيء في اللغة هو الموجود.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8